لبوابة الإذاعة التونسية : عبد الستار  النقاطي

احتضنت مدينة الثقافة يوم الخميس 9 جويلية 2020 فعاليات أربعينية الأستاذ الجليل الفقيد الشاذلي القليبي الكاتب المتميز الدبلوماسي اللبق الذي وافاه الأجل المحتوم يوم 13 ماي 2020 . وتخليدا لذكراه واعترافا بإسهاماته في تشييد صرح الثقافة الوطنية، أطلقت وزارة الشؤون الثقافية اسم الأستاذ الفقيد الشاذلي القليبي على مدينة الثقافة …الموكب كان بحضور رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ورئيس المجلس الوطني التأسيسي الأسبق مصطفى بن جعفر وعدد من أعضاء الحكومة والنواب وعدد من السفراء وممثلين عن البعثات الدبلوماسية، بالإضافة إلى عائلة الفقيد ونخبة من المثقفين والفنانين… وقد تولّى رئيس الحكومة بالمناسبة رفع الستار عن لوحة رخامية تمّ تركيزها في المدخل الأمامي الرئيسي لمدينة الثقافة المطلّ على شارع محمد الخامس، دُوّن عليها اسم الفقيد الشاذلي القليبي، كما اطّلع رئيس الحكومة والوفد المرافق له على معرض للصور الفوتوغرافية والكتب الخاصة بالمسيرة الثقافية والسياسية للفقيد. ودشّن بالمناسبة منحوتة للفنان التشكيلي نجا المهداوي إهداءً لروح الفقيد الشاذلي القليبي. وأكد  رئيس الحكومة في الكلمة التي ألقاها بالمناسبة على أن إطلاق اسم الشاذلي القليبي على مدينة الثقافة هو اعتراف للفقيد بجهوده المبذولة في الارتقاء بالثقافة وبما قدّمه لتونس في عديد المجالات الأخرى، مضيفا أن الفقيد كرّس حياته لخدمة بلاده والقضايا العادلة النبيلة التي آمن بها …

وبعد ذلك حضر رئيس الحكومة والوفد المرافق له الأمسية التي خصصت لتكريم الأستاذ الشاذلي القليبي في قاعة « مسرح الجهات  » وقد نشط فقرات الأمسية التي نقلتها التلفزة الوطنية مباشرة فاطمة غربال والشاذلي بن يونس .

مسيرة طويلة ومتنوعة …

 والراحل العزيز مولود يوم 6 سبتمبر1925 بتونس العاصمة ، زاول تعليمه بالمدرسة الصادقيّة حيث تلقى تعليما مزدوجا باللغتين العربية والفرنسية .وبعد حصوله على شهادة « الباكالوريا « التحق بجامعة « السربون » التي حصل منها في على الإجازة في اللغة والآداب العربية سنة 1947 ، كما تحصل على شهادة التبريز… وعندما عاد إلى تونس بدأ الراحل حياته المهنية بالتدريس في المعاهد الثانوية في تونس ثم التحق بالتدريس في المعاهد العليا حيث كلف بإلقاء دروس في معهد الدراسات العليا بتونس، وفي سنة 1957 تفرغ للتدريس الجامعي.

 وفي سنة 1961 أسند إليه  الرئيس الحبيب بورقيبة مهمة إنشاء وزارة  الثقافة فشهد له التاريخ في تسيير شؤون هذه الوزارة تأسيسا وإدارة وإبداعا …

وفي سنة 1974 أسند إليه الرئيس بورقيبة منصب رئيس الديوان الرئاسي، ثم أسندت إليه وزارة الثقافة من جديد في عام 1976.وفي سنة 1978 تم تعيينه وزيرا للإعلام وهو آخر منصبه شغله قبل أن يتولى رئاسة جامعة الدول العربية .

المسعدي غير مسار حياته …

في حوار لمجلّة  » ليدرز » سنة 2015 قال : تعلّقت همّتي أنا وصديقي محمود بالناصر بدراسة الطب وفعلا سافرنا إلى فرنسا يوم غرّة أكتوبر 1945 على ظهر باخرة اسمها  »  Chanzy »   وكان معنا أيضا الأمين بلاّغة وعبد العزيز بن حسن. وبينما كنت أتأهّب للتّسجيل في كليّة الطب وصلتني رسالة من والدي يقول لي فيها: لقد زارنا في المنزل الأستاذ محمود المسعدي (وكان من أساتذتي في الصادقية) وسلّمني هذه الرسالة التي لم أفتحها وأبعث بها إليك …ويقول لي فيها سي محمود : « إذا كنت تعتقد أنّ الطبّ الذي تتوجّه لدراسته يخدم البلاد فإنّك مخطىء ». لم يخض فيها أكثر في التّفاصيل ففهمت قصده. ومن الغد ذهبت إلى « السربون  » وسجّلت في قسم اللّغة والآداب …

الإذاعة التونسية أول المناصب …

سنة 1958 قام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بتعيين الشاذلي القليبي مديرا عاما للإذاعة والتلفزة التونسية رغم اعتذاره في البداية عن قبوله المهمة للتفرغ لرسالة الدكتوراه.  وفي هذا السياق قال الأستاذ  الشاذلي القليبي في الحوار نفسه إلى مجلة « ليدرز » استبعد بورڤيبة اعتذاري قائلا: (لا … لازم تخدم بلادك!) … بالنسبة إلي « الأهمّ قبل المهمّ  » …المطلوب منك أن تُمسك بزمام الإذاعة وتُنظّمها لتتولّى الدّفاع عن تونس ومواجهة الأبواق المفتوحة ضدّها .وإنّي أكلّفك بهذه المهمّة… لمّا تسلّمت مهامّي على رأس الإذاعة التّونسيّة لم أجد فيها آنذاك سوى بعض المذيعين وشابّين دون مهمّة محدّدة، هما التّيجاني زليلة ومصطفى الفارسي، فكلّفت الأوّل بإدارة البرامج والثاني بالعلاقات الخارجيّة والتعاون الدولي واستعنت في مهامي بالسّيد حمّدي النّيفر الذي عرّفني بالوسط الفنّي وفي المقدّمة صالح المهدي وبدأنا في تكوين مناخ فنّي وثقافي وإحداث لجنة متابعة اللّغة العربيّة.

اسمه اقترن بالتأسيس …

وقد اقترن اسم الفقيد بالتأسيس فكان ثاني مديرعام للإذاعة والتلفزة بعد تونستها في سبتمبر1957 حيث خلف الأستاذ البشير المهذبي في ماي سنة 1958 وقد ترك بصماته جلية على العديد من البرامج الإذاعية  من خلال تجديد وإثراء المحتوى على سبيل الذكر لا الحصر برنامج  » جنة الأطفال » الذي كانت تعده باقتدار السيدة علياء ببو (رحمها الله ) حيث قالت في حوار صحفي لمجلة « الإذاعة والتلفزة  » : بعد اللقاء الذي جمعني بالأستاذ الشاذلي القليبي في ماي سنة 1960 ودام لمدة ساعتين أكد لي حرص إدارة الإذاعة التونسية من خلال البرنامج على المساهمة في تكوين جيل جديد من الجنسين من الكفاءات على حد سواء وهو ما تحقق والحمد لله وقد تخرج العديد منهم وأصبحوا أطباء ومحامين ومهندسين وإعلاميين . وهذا شيء بادرت به الإذاعة الوطنية واعتزوا فتخر به كمنتجة …

ومن الأشياء التي تحسب للأستاذ الشاذلي القليبي وهو على رأس الإذاعة بعثه « لمجلة الإذاعة  » وقد صدر عددها الأول يوم 15 ماي 1959 أما العدد الثاني فقد صدر وبه نص دستور 1 جوان 1959 .

الإعلام جهاز اصلي وأساسي هو الإذاعة…

 وفي حوار إذاعي أجراه معه الإذاعي صالح جغام واعد بثه الحبيب جغام في برنامج  « أيام لا تنسى » على موجات الإذاعة الوطنية التونسية يوم الخميس 9 جويلية  2020  قال الأستاذ الشاذلي القليبي بالخصوص عن الإذاعة التي كانت أول المناصب التي كلفه بها الزعيم الحبيب بورقيبة  :   » كنت أريد أن تكون الإذاعة في خدمة الثقافة في الطبقات الضعيفة … كنا نتألم قبل تونسة الإذاعة  من معاملة الفرنسيين … وأضاف : مع المسعدي وهو في وزارة التربية اتفقنا على بناء الشخصية التونسية ولا يكون ذلك إلا باللغة العربية  وبالحضارة العربية حتى لا تذوب الشخصية التونسية في الحضارة الفرنسية …لقد كان نضالنا حضاريا وأدبيا وثقافيا قبل أن يكون سياسيا وحزبيا دفاعا عن المجتمع التونسية وهذا لا يكون إلا بالإعلام … والإعلام في ذلك الوقت جهاز اصلي وأساسي هو الإذاعة »

من الإذاعة إلى الثقافة …

كما كان الأستاذ الشاذلي أول وزير للثقافة وبما أن الرجل كان صاحب فكر وقاد يعود له الفضل في هندسة ملامح السياسة الثقافية في تونس ففي عهده انطلق مهرجان « المرجان بطبرقة » وقد كان قبلة للعديد من النجوم العرب على غرار عبد الحليم حافظ وفهد بلان وعايدة الشاعر وغيرهم …كما تأسس في عهد مهرجان « قرطاج الدولي » الذي اعتلى ركحه كبار الفنانين العرب أمثال فيروز فريد الاطرش ونجاة الصغيرة وصباح فخري ووردة الجزائرية . وتغنى بمجد قرطاج حليم الرومي في قصيد أدته باقتدار الفنانة ماجدة الرومي ، كما استضاف المهرجان في دوراته المتتالية  كبار النجوم العالمية على غرار « جيمس براون » و »جوككر » و »خوليو ايقليزياس » واخرهم سنة 2014 « شارل ازنفور »…  ومهرجان الحمامات الدولي الذي افتتحت دوراته المتتالية اشهر المسرحيات ومهرجان أيام « قرطاج السينمائية « ومهرجان « ايام قرطاج المسرحية »  كما برزت في عهده العديد من الفرق المسرحية الجهوية على غرار فرقة الكاف وفرقة الجنوب بقفصة وفرقة القيروان وقد كانت بمثابة « المنجم » حيث تخرج منها العديد من النجوم على غرار الأمين النهدي وعبد القادر مقداد والفاضلي الجعايبي والفاضل الجزيري ورؤوف بن عمر ورجاء فرحات والبشير القهواجي فاتحة المهدوي غيرهم … كما تأسست في عهده دور الثقافة والمكتبات الوطنية واللجان الثقافية الجهوية … وما يحسب للراحل انه كان كثير النشاط غزير الإنتاج الكتابي في مجال الثقافة والأدب والسياسة ، كما كان عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة . أما في المجال الديبلوماسي فقد ترأس جامعة الدول العربية من سنة 1979الى سنة 1990، وقد كان التونسي الوحيد الذي شغل هذا المنصب، حيث احتكرها المصريون منذ تأسيسها سنة 1945 وقد ألت إليه  بعد اتفاقية « كامب دايفد  » التي أمضاها الرئيس المصري أنور السادات مع الرئيس الاسرائلي « منيحيم بيقن  » … وبما أن الاستاذ القليبي كان صاحب مواقف وصارم في تعاملاته قدم استقالته من الجامعة العربية احتجاجا على حرب العراق التي شنتها أمريكا وحلفاؤها سنة 1991 بعد الهجوم الذي شنه الجيش العراقي على الكويت في صائفة سنة 1990 .

آثاره تدل عليه …

نشر الأستاذ الشاذلي القليبي العديد من المقالات في مجال الثقافة والأدب والسياسة ، كما ألف العديد من الكتب  » من « قضايا العصر » وأمة تواجه عصرا جديدا  » و » العرب أمام قضية فلسطين »… وفي سنة 2012 بعد الثورة اصدر كتابا بعنوان  « أضواء من الذاكرة …الحبيب بورقيبة « …وآخر كتابا قبل رحيله كان بعنوان : « تونس  وعوامل القلق العربي  » .